الخبـــاز والغــراب الجني
.
.
قديما في بلاد الحجاز عاش رجل إسمه جابر. كان جابر يعمل في بستان أحد كبار الأغنياء في البلاد، وعمل لديه مدة من الزمن ليست بالهينة. وذات يوم ولما صار البستان على أحسن هيئة، قام صاحب البستان بطرد جابر من عمله، بدعوى أنه لا يقوم بمهامه في البستان على أكمل وجه، وهو الذي كان له الفضل بعد الله عز وجل في ما آل إليه بستان الغني من خضرة ونضارة تسر الناظر إليها. ولم يكن سبب طرده كما ادعى صاحب البستان، بل السبب أن زوجة صاحب البستان طلبت من زوجها طرد جابر و إيكال أشغال البستان لأخيها، فوافق على طلبها.
أحس جابر بالظلم والقهر وعاد الى بيته مكسور الخاطر ولا يدري ما يفعله, بعد أن كان العمل بالبستان مصدر رزقه الوحيد.
وكان لجابر أم تقية طاعنة في السن، فلما حكى لها ما صار معه, طيبت خاطره وطلبت منه أن يعمل خبازا, وهو العمل الذي كان يزاوله أبوه قبل أن يوافيه أجله. وكان جابر قد تعلم الخبازة من أبيه منذ كان صغيرا.أخرجت الأم ذهبا كانت تخزنه لمثل هذه الظروف, وأعطته لابنها وطلبت منه بيعه واقتناء طحين بثمنه و يعيد فتح المخبز المقفل منذ وفاة أبيه. ورغم أن عائد العمل بالمخبز لا يوفر سوى قروش قليلة، إلا أنه ولغياب البديل رضي جابر بالوضع وتوكل على الله. بدأ جابر عمله الجديد، وكان يكسب قروشا قليلة من عمله الجديد لكنه كان قانعا بذلك.
وذات يوم وبينما جابر منهمك في إعداد عجين الخبز، حط بالقرب منه وفوق الحطب بالتحديد، غراب شديد السواد وبدأ بالنعيق. وكان نعيقه يصم الآذان فقام جابر بمحاولة طرده وصاح فيه "هش يا غراب، هش"
لكن الغراب لم يتزحزح من مكانه وظل ينعق ويحدق بجابر. فقام جابر بالتوجه نحو الغراب عله يخاف عند رؤيته له وهو يقترب منه، ويغادر المكان. لكنه بعد اقترابه منه تفاجأ بأن ساق الغراب مكسورة وظن جابر أن الغراب ينشد مساعدته، فأحضر خشبة بحجم ساق الغراب ودعم بها ساقه حتى يثبتها عن الحركة ويترك المجال للعضم كي يترمم ويأخذ مكانه، وقدم له بعض الخبز و الماء وعاد ليتابع عمله.
<><>
.
.
.
.
انشغل جابر بعمله ونسي أمر الغراب. وبعد انتهائه من عمله وعند مغادرته للمخبز، تفاجأ بأن الغراب لم يبرح مكانه ولم يأكل الخبز الذي قدمه له، فقال جابر : "يبدو أنك أيها الغراب لا تحب الخبز، ولعلك تشتهي لحما بدلا منه، حسنا سأصطحبك معي وأبتاع لك قطعة لحم صغيرة بالمبلغ الذي حصلته هذا اليوم, رغم أني كنت أنوي أن أقتني به سمكا مجففا لأمي, والذي تعشقه كثيرا، لكنني متأكد من أنها كانت لتطلب مني ما أنا بصدد فعله.
حمل جابر الغراب بين يديه وسار به عند الجزار, و ابتاع له قطعة لحم وناولها إياه، فأكلها الغراب، ثم أكمل جابر طريقه نحو البيت.
ولما حل الليل ارتأى جابر أن يأوي الغراب عنده في بيته تلك الليلة, حتى يصبح الحال, ثم يتركه في حال سبيله.
وفعلا ففي صباح اليوم الموالي وضع جابر الغراب خارج البيت وأغلق الباب، لكن الغراب بدأ بالنعيق وكأنه لا يريد مغادرة البيت، وعلى إثر صراخه المزعج والمتكرر، إضطر جابر لإرجاع الغراب الى داخل البيت, فسكت الغراب ولم يعد يصدر ذلك النعيق المزعج. حار جابر ولم يدري ما يفعله, فذهب عند أمه وأخبرها بأمر الغراب وبأنه لا يريد مغادرة البيت. فطلبت منه أمه أن يحتفظ به بضعة أيام ويعتني به حتى تشفى ساقه, و يحتسبها عند الله صدقة.
وكان جابر بارا بأمه, ولا يعصي لها طلبا. فوافق على طلبها, لكنه تذكر أن الغراب لا يأكل إلا لحما, وأنه لا يملك مالا ليبتاع له قطعة لحم كل يوم. فأخبر أمه بذلك. فطلبت منه أن يتوكل على الله وسيدبرها بقدرته. سار جابر الى عمله وترك الغراب في البيت, على أن يعود إليه بعد انتهائه من عمله.
وبعد أن انتهى جابر من عمله, أقفل المخبز وهم بمغادرته، فتفاجأ بالغراب يقف خارجا فوق الحطب منتظرا إياه. ولما لمح الغراب جابر, بدأ بالنعاق بصوت مرتفع كأنه ينادي عليه. تعجب جابر لأمر الغراب, وقال في نفسه : ما بال هذا الغراب الغريب، لقد أقفلت الباب باحكام عند خروجي صباحا للعمل، لابد أن أمي فتحت النافذة وانسل خارجا منها. هذا لا يهم الآن, لابد أنه يحس بالجوع لذلك تبعني الى هنا، لكنني لا أملك سوى ثمن قوت يومي وإذا اشتريت له قطعة لحم فسيكون عشاؤنا أنا وأمي خبزا لا غير. ثم تذكر طلب أمه بأن يعتني به الى أن يصح و يشفى. فسار به نحو الجزار, واشترى له قطعة لحم تطفئ جوعه ثم عاد به الى البيت.
<><>
مرت الأيام والأسابيع, وجابر يعتني بالغراب ويرعاه. وجاء اليوم الذي سيودع فيه جابر الغراب, بعد أن شفيت ساقه, وكان على جابر أخذه للغابة, وتركه هناك, لكي لا يعرف طريق العودة نحو البيت. فلما وصل الى الغابة وضع الغراب فوق حجر تحت شجرة ظليلة، وسار عائدا نحو بيته وما هي إلا خطوة واحدة! حتى سمع نعيق الغراب, فظن أنه يودعه. فالتفت جابر جهة الغراب, يريد مبادلته التحية. ففوجئ جابر بالغراب يحمل في منقاره قطعة قماش وهو الذي لم يكن يحمل شيء قبل ذلك. وكان الغراب يومؤ لجابر برأسه, كأنه يقول له, اقترب وخذه. دهش جابر بما رآه، لكنه تقدم نحو الغراب ليعرف ماذا يوجد بداخل القماش. تناول قطعة القماش وحل عقدتها, فإذا به يجد بداخلها حفنة من الدنانير الذهبية. لم يصدق جابر عينيه وصار مسرعا بها نحو البيت, وأخبر أمه بذلك. فنصحته أمه بأن يبحث عن صاحب الدنانير, فلربما تكون قد سقطت من أحدهم وهو الآن يبحث عنها. لكن جابر كان يعلم علم اليقين أن لا أحد في البلدة يملك هذا المبلغ ولو كان كذلك لكان من أغنياء البلدة ولا وجود لغني في المنطقة التي يسكنها جابر. لكنه رغم علمه بذلك قرر العمل بنصيحة أمه. فراح يطوف بأنحاء البلدة ويراقب إن كان أحدهم يبحث عن قطع ذهبية مفقودة. وكان من عادة أهل البلدة أنه من أضاع شيء، وكل مناديا يصيح بالبلدة ليستعلم إن كان أحدهم قد وجد ضالته. لكن جابر لم يسمع أو يرى مناديا يحوم بالأرجاء. فعاد الى بيته وأخرج الدنانير الذهبية من قطعة القماش, ليحفظها في مكان آمن. فلاحظ كتابة قد خطت على قطعة القماش، لم يكن قد لاحظها قبلا لشدة دهشته ساعتها. فلما فرد قطعة القماش, وجد رسالة تقول : أنا جني في هيئة غراب وقد وكلني سيدي أن أجد له شخصا صالحا وشهما ليساعده في محنته, ولقد برهنت أنك كذلك وأهل للثقة، فإن أنت وافقت على مساعدة سيدي, فستجدني أنتظرك غدا عند نفس الصخرة, حيث تركتني آخر مرة. وإن أنت رفضت فذلك حقك, ولن أطالبك بإرجاع الدنانير التي قدمتها إليك لأنك تستحقها و أهل لها.
لم يصدق جابر ما قرأه, وظن أنها مجرد ترهات، لكنه وكعادته ذهب ليستشير أمه، فلما حكى لها فحوى الرسالة، سكتت الأم قليلا وتنهدت ثم قالت لجابر : يا بني, الأمر ليس بالترهات, والغراب الذي قدمت له يد المساعدة, جني حقا كما قالت الرسالة وقد علمت ذلك عندما أخبرتني أنه لم يأكل قطعة الخبز, وأكل اللحم. لأن الجن بطبعها تكره الملح، والخبز به ملح. ولذلك طلبت منك الإعتناء به, حتى لا يلحقك أذا منه, إن أنت آذيته. لكن على ما يبدوا من رسالته وأسلوب حديثه فإنه جني مؤمن, لا يضر ولا يعتدي، ولا ضير في الذهاب عنده, والإستماع إليه, ومساعدته, إن كان لك مستطاع في ذلك.
<><>
كان جابر مترددا وخائفا, لكن كلمات أمه المتفائلة جعلته يتشجع, ويقرر الذهاب لمقابلة الغراب الجني.
أصبح الحال, وخرج جابر من بيته قاصدا الغابة ليقابل الغراب، ومشاعر الخوف والشك مازالت تساوره. فلما وصل عند الصخرة, وجد الغراب فعلا، واقفا و ينتظره كما أخبره في الرسالة، ارتعب جابر ولم يدري ما يفعل. فنطق الغراب مخاطبا جابر: "لا تخف أيها الخباز الصالح فأنا جني مؤمن ولا أوذي البشر، فاطمئن. والآن اتبعني وسأرشدك لمكان سيدي لتسمع منه, وتقرر إن أنت وافقت على مساعدته أم لا."
انطلق الغراب وتبعه جابر, حتى وصلا عند مغارة مخفية وسط الجبال. فدخلها الغراب وتبعه جابر. فلما استقرا داخل المغارة وجد جابر رجلا ضخم البنية, لكن جسده تحول صخرا ولم يبقى سوى رأسه على طبيعته.
سأله جابر: "من أنت وكيف تحول جسدك إلى صخرة؟"
فأجابه الرجل قائلا : "أنا السلطان شاهين, ولقد سحرت أنا وكتيبتي من الجن، وذلك بعد أن غدر بي وزيري الذي وثقت به و قربته من بلاطي لشدة ذكائه وحسن تدبيره وحيلته. لكنه لم يكن إلا ساحرا أرسله كبير السحرة ليفعل بي ما فعله بعد أن بلغ إلى علمهم أني كنت أنوي الإغارة عليهم بمساعدة كتيبة الجن، لما استفحلوا في طغيانهم وظلمهم للرعية باستعمالهم للسحر والشعوذة. لكن وقع ما وقع, وصرت أنا أيضا ضحية لتسلطهم وطغيانهم."
علم جابر أن الذي أمامه هو سلطان البلاد الذي اختفى منذ ما يقرب من العشرين سنة, لكن ظن الجميع حينها أن السلطان شاهين قد غرق في البحر بعد أن خرج في مهمة استدعت منه ركوب البحر.
ثم قال جابر : "ماذا عساي أيها السلطان لأفعله من أجل مساعدتك."
<><>
قال السلطان : "لقد حولني السحرة للشكل الذي تراني عليه, وما كانوا ليستطيعوا فعل ذلك إلا عندما استعانوا بالحجر الأسود وقد تحصلوا عليه بعد أن استخرجوه من قبو يقبع تحت قصر سيدنا سليمان. ويشاع أنه حيث وجد الحجر الأسود يوجد على مقربة منه خاتم سليمان لكن السحرة والعفاريت والجن لا يستطيعون له سبيلا لأنه سيكون أخر شيء يرونه في حياتهم فالخاتم وضع بالقرب من الحجر الأسود كحارس له لأنه قادر على حرق العفاريت والجن والسحرة بمجرد الإقتراب منه أو لمسه وقد هلك منهم الكثير في محاولتهم لإستخراج الحجر الأسود. حتى استعانو برجل صالح وأقنعوه أن يستخرج لهم الحجر الأسود وأوهموه أن غرضهم من امتلاك الحجر هو إنقاذ الناس المرضى الذين استعصى علاجهم, وذلك بالاستعانة بقدرة الحجر، وبذلك استطاعوا الحصول على الحجر الأسود بمساعدة الرجل الصالح.
ولهذا وكلت جنودي اللذين هم في الأصل جن مؤمنون حولهم السحرة لغربان، وكلتهم بأن ينتشروا ويبحثوا عن رجل صالح وشهم، يساعدنا في مهمة إيجاد خاتم سليمان، ولقد فشل كل جنودي في العثور على الشخص المطلوب، ماعدا الغراب الذي قابلته والذي وجد فيك كل الصفات التي كنا نبحث عنها منذ مدة، والتي تأهلك لحمل خاتم سليمان.
وأنا أعول على الله وبعده عليك أيها الخباز الطيب لكي تجد الخاتم فهو القادر على إرجاعي وجنودي الى شكلنا الطبيعي، وحق علي أن أوفر لك كل ما تحتاجه في رحلتك من زاد ومال بالإضافة إلى جندي من جنودي يكون طوع أمرك.
فكر جابر قليلا وطلب من السلطان شاهين مهلة من الزمن ليفكر في الأمر ويستشير أمه.
وفعلا عاد جابر إلى بيته وحكى لأمه ما جرى معه، وطلب منها أن تشير عليه بشأن تلك المهمة الملقات على كاهله.
فقالت له أمه : "حتى وإن منعتك يا بني من أن تساعد السلطان شاهين في محنته, فلا بد أن ضميرك لن يريحك وأنت ترى شخصا بحاجة الى مساعدتك, وتأبى تقديم يد المساعدة إليه. لذلك فقد تركت لك أمر اتخاذ القرار هذه المرة. فلو افترضنا يا بني أنني اقترحت عليك رأيا وعملت به فلن تتحقق فيك الأوصاف التي سعى لها السلطان، لأنك ساعتها ستكون مجبرا ومسيرا في خيارك, لأنك لا تعصى لي أمرا. أما إن أنا تركت لك القرار, ورفضت مساعدة السلطان فذاك شأنك، وإن أنت قبلت فقد قبلت عن قناعة وبملئ إرادتك، وتكون حينها قد تحققت فيك شروط السلطان, وهي الصلاح والشجاعة.
<><>
مرت ستة أيام و جابر لا يدري ما يفعله، وكان يفكر كل ساعة في الأمر، حتى أنه بدأ يشعر بتأنيب الضمير كلما تذكر الحالة التي وجد عليها السلطان.
في اليوم السابع, ولما كان جابر عائدا الى بيته بعد أن فرغ من عمله في المخبز. وفي طريق عودته تذكر أنه نسي خبز العشاء في المخبز فعاد أدراجه نحو المخبز، ولما اقترب, رأى النار تلتهم المخبز والناس تحاول إطفاءها, فأسرع جابر وانضم إليهم في إطفاء الحريق حتى انطفأ. فشكرهم جابر على صنيعهم. لكنه لاحظ أن شابا قد أصيب بجرح في يده, ومع ذلك كانت الفرحة تعلو محياه. فسأله جابر : "كيف أصبت بهذا الجرح." فأجابه الشاب قائلا : "لقد أصبت وأنا أحاول كسر النافذة ظنا مني أنك مازلت في المخبز، وقبل أن أدخل لمحتك وأنت قادم فسعدت لأنك لم تكن بالداخل".
شكر جابر الشاب على شجاعته وشكر باقي من ساعده في إخماد النار. وعاد لبيته، وجلس يفكر مليا في الأمر وخاطب نفسه قائلا: كيف للشاب أن يخاطر بحياته لينقذني لمجرد أنه ظن أنني عالق بالداخل، وأنا الذي أعلم علم اليقين أن السلطان بحاجة إلى مساعدتي لم أهرع لمساعدته. وأنا الذي أعلم علم اليقين أن السلطان بحاجة إلى مساعدتي لم أهرع لمساعدته. كم كنت غافلا وأنانيا.
قرر جابر من ساعتها أنه سيساعد السلطان مهما كلفه الأمر. وذهب عند أمه وأخبرها بقراره. فرحت الأم كثيرا وأخبرته أنه القرار الصائب وأنه القرار الذي كانت لتمليه عليه لولا أن الأمر في الأخير يجب أن يعود إليه هو وحده. لكن جابرا كان قلقا لأنه لم يشأ ترك أمه وهي التي لا تقوى على رعاية نفسها لوحدها، وأخبرها بذلك. إبتسمت الأم وقالت لجابر : لقد أتاني الغراب الجني, وأخبرني أن السلطان وكله ليهتم بأمري ويرعاني, إن أنت قبلت مساعدته، وسيبقى بجانبي طيلة غيابك عني. فاذهب وتوكل على الله وإن شاء الله لن تخيب.
<><>
قبل جابر رأس أمه وسار نحو المغارة حيث يوجد السلطان. فلما وصل وجد جنود السلطان من الجن قد أعدوا له المؤونة والمال, والدابة التي ستقله. فقال له السلطان شاهين : قليل من هم في شهامتك و مروءتك، ولإن قدر الله وأنجاني من محنتي هذه, فسأجعلك من أقرب الأقربين. والآن ستنطلق نحو بلاد الشام وسيرافقك أحد جنودي من الجن, واسمه علقم. وهو سيطلعك على ما ستقوم به خطوة بخطوة.
انطلق جابر والجني علقم, يرافقه أينما حل وارتحل, فلما وصل الى واحة غناء, أراد جابر قضاء يوم هناك ليستريح ويستجمع قواه، فترجاه علقم ألا يفعل ذلك, لأن الواحة يشاع أن كل من يبيت بها, لا يجدون له أثرا بعد ذلك. لكن جابرا لم يهتم لكلام علقم لأنه ظن أنها إشاعات لا غير ولأن الواحة كانت هادئة وذات أشجار مثمرة وظليلة, تسحر كل وافد إليها بجمالها، ولا توحي بما يشاع عليها. ظل الجني علقم لصيق جابر, وظل يعيد ويكرر عليه النصيحة ولما رأى أن جابرا يتحاشاه ولا يريد الإبتعاد عن الواحة, قال له: "إن أنت أصريت على أن تقضي بعض الوقت وسط الواحة فلا ضير في ذلك لكن شريطة أن تزيح عن وسط الواحة ساعة غروب الشمس, وتتخذ أحد جنباتها مكانا للمبيت. وافق جابر ليتجنب صراخ الغراب المزعج ويستمتع باستراحته.
فلما حل وقت غروب الشمس, زاح جابر بخيمته خارج الواحة واتخذ موضعا قريبا ومطلا على منظر الواحة الجميل ليبيت فيه. وما هي إلا لحظات! حتى اهتزت الأرض بجابر. ارتعب وخرج مسرعا من خيمته ليرى أمامه منظرا لم يكن ليصدقه لولا أن رآه بأم عينه. فلقد رأى واحة الماء وهي تنشق و تبتلع ماءها ثم تبتلع ما حولها من أشجار و خضرة. وصار المكان قاحلا وكأنه لم تكن هنالك واحة قبل ذلك.
بقي جابر متجمدا في مكانه وغير مصدق لما رآه حتى تكلم الجني علقم وقال له : "لقد عمد السحرة على نصب هذا الفخ وفخاخ أخرى مشابهة, في كل الجهات التي تحيط ببلاد الشام باستعمال قدرات الحجر الأسود للقضاء على الجيوش المتوجهة نحو بلاد الشام, والتي تسعى لتخليص البلاد من طغيان السحرة، والآن سنكمل طريقنا لكني أريد منك يا جابر أن تصدق نصيحتي في قادم الأيام.
<><>
وعده جابر بأنه سيسمع إلى نصائحه ويعمل بها, وأكملا طريقهما نحو بلاد الشام. فلما اقتربا وكان الوقت ظهرا ساعتها، أخبر الجني جابرا بأن السحرة سيكتشفون أمره إن هو دخل بشكله الحالي كغراب وسيعلمون أنه خادم من خدم السلطان شاهين، وأن الطريقة الوحيدة لألا يكشفو أمره هي دخوله البلدة عندما تقل فيه مراقبة السحرة وأتباعهم لمداخل البلدة, وسيتأتى له ذلك وقت بزوغ الفجر. ثم طلب من جابر أن يدخل الشام وحده وسينتظر هو الوقت المناسب ثم سيلحق به. انطلق جابر ودخل الشام, وأول ما لاحظه هو كثرة الحمقى و المختلين الذين تجدهم في كل مكان، حتى أنه لم يجد عاقلا ليسأله. فتابع سيره حتى وصل قرية صغيرة وكان الظلام قد حل، فقرر أن يطرق باب أحدهم و يطلب منه قضاء الليلة عنده. توجه نحو أقرب بيت وطرق بابه ففتح الباب، فإذا به رجل أحدب يفتح الباب و يرحب بجابر، ثم أحضر له العشاء وأعد له موضعا لينام عليه.
استلقى جابر وغط في نوم عميق بسبب عياء السفر، وما إن انتصف الليل حتى سمع جابر صوتا خافتا يقول له : قم واهرب قبل أن يحل بك ما حل بأهل البلدة. ارتعب جابر لكنه فطن الى أن الصوت صوت الجني علقم. فقام من مكانه وغادر بيت الأحدب دون أن يحدث صوتا، فلما خرج وجد الغراب الجني ينتظره من بعيد فذهب عنده ثم استفسره عن السبب الذي دفعه لمنعه من المبيت هناك فأخبره علقم بأن أهل تلك القرية يعملون مع السحرة وهم يسلبون عقول الوافدين إليهم ليسهل على السحرة استعمالهم عند الحاجة.
طلب الجني من جابر أن يتبعه، فأخذه عند بيت شيخ جليل وكان ذلك الشيخ صديقا للسلطان، فاستقبلهما أحسن استقبال وأكرمهما بعد أن علم أنهما جاءا بحثا عن خاتم سليمان لينقذا به السلطان وبلاد الشام من تسلط السحرة، وقضيا الليلة عنده.
وفي الصباح ولما أرادا مغادرة بيت الشيخ ليتابعا مهمتهما، أخبرهما الشيخ أنهما إن أرادا الحصول على خاتم سليمان فعليهما أن يذهبا أولا عند الرجل الصالح الذي خدعه السحرة ليساعدهم في استخراج الحجر الأسود ويسألوه عن المكان حيث استخرج الحجر فهناك ستجدون الخاتم بكل تأكيد.
<><>
انطلق جابر والجني يقصدان بيت الرجل الصالح فلما وصلى عنده حكى له جابر أمره وطلب منه مساعدته فقال له الرجل الصالح: لقد حذرني السحرة من أن أفشي أسرارهم بما في ذلك مكان العثور على الحجر الأسود وإلا فسينهون حياتي، لكنني أشعر بالذنب جراء ما قدمته للسحرة رغم أن قصدي كان نبيلا إلا أنني خدعت على يدهم، وأريد الآن تصحيح خطئي، لذلك سأساعدكم لإيجاد الخاتم. لكن هنالك أمر يحيرني فلح أوصاني السحرة أن أبدأ البحث عن الحجر الأسود ساعة خسوف القمر ولا أعرف سبب ذلك.
هنا قاطعه الجني وقال : "أنا أعلم السبب, وهو أننا نحن الجن والعفاريت, نتأثر ساعة كسوف القمر ويغشى علينا, ولا ندري بما يحدث حولنا إلا بعد انتهاء الخسوف. ولا بد أن الجن الصالحين كانوا هم من يحرسون الحجر الأسود والخاتم، طبعا كانوا يحرسونه من بعيد, حتى لا يصيبهم أذاه، لكن بعد حصول السحرة على الحجر الأسود سيطرت العفاريت والسحرة على قصر سليمان وصاروا يصرعون كل من يقترب من القصر."
وتابع الجني كلامه قائلا : "إن السلطان شاهين يعلم بوقت خسوف القمر, وهو من قرر الوقت المناسب لبدئ المهمة ليتوافق وصولنا لبلاد الشام مع خسوف القمر. والخسوف سيحدث الليلة, لذا علينا الانطلاق حالا والإقتراب ما أمكن من القصر. لكن يجب أن أخبركم أنني لن أستطيع مساعدتكم في المهمة لأنه ينطبق علي ما ينطبق عليهم ويغشى علي ساعة الخسوف. ودوري سينحسر فقط في إخباركم بالوقت المناسب لدخولكم قبو القصر, وبدئكم في التنقيب.
انطلق جابر والجني والرجل الصالح واستقرا في موضع قريب من القصر وجلسا ينتظران خسوف القمر. مرت الدقائق والساعات وبدأت أخيرا بوادر خسوف القمر تظهر في السماء. استعد جابر والرجل الصالح وأكد لهما الجني ذلك بعد أن أحس بأنه سيغشى عليه. انطلق الرجل الصالح وخلفه جابر يقصدان قبو القصر حيث استخرج الحجر الأسود فلما وصلا هناك بدأى بالحفر والتنقيب عن الخاتم. مر الوقت بسرعة وبدأت الظلمة تنجلي عن وجه القمر. فبدأى يسرعان في الحفر علهما يعثران على الخاتم خلال اللحظات القليلة المتبقية. لكن لسوء حظهما فقد انجلى خسوف القمر وأحست العفاريت بوجودهما داخل قبو القصر فأسرعوا نحوهما يبغون أذيتهم، خاف جابر والرجل الصالح وظنا أنهما سيلقيان حتفهما لا محالة، لكنهما تفاجأى عندما احترق أول عفريت اقترب ناحيتهما. فتراجعت العفاريت الأخرى مخافة أن يصيبها ما أصاب العفريت الهالك.
<><>
فأدرك جابر والرجل الصالح أن ما يشاع عن خاتم سليمان صحيح وبأنه يحرق كل عفريت أو جن أو ساحر يقترب منه. وأدركا أنهما قريبين من الخاتم وما عليهما سوى متابعة الحفر. وفعلا استمرا في الحفر دون كلل أو ملل. وأخيرا! حصلا على ما كانا يبحثان عنه، خاتم سليمان. حمله جابر وارتداه فأحس بقوة تنبعث داخل جسده. فلما رأى العفاريت ذلك, فروا كأنهم رأو هلاكهم. خرج جابر والرجل الصالح من سرداب القصر, ووجدو صديقهم الجني علقم, ينتظرهم خارجا، فسأله جابر :"ألست خائفا باقترابك من الخاتم." فقال الجني : "إن الخاتم يكون خطيرا على الجن والعفاريت والسحرة حينما يكون دون صاحب يروضه، أما وقد صار له صاحب فقد صار طوعا لأمره وما يمليه عليه." سعد جابر لأنه نجح في مهمته وسيستطيع أخيرا تخليص السلطان شاهين من عذابه الطويل. ودع جابر الرجل الصالح ووعده بأنهم سيعودون لتحرير بلاد الشام من بطش السحرة فور تحرير السلطان. ثم انطلق مع الجني عائدين نحو بلاد الحجاز. وبعد خروجهما وابتعادهما بقليل عن باب البلدة قال الجني علقم لجابر
"يمكننا قطع المسافة التي تفصلنا عن الحجاز في ساعة أو أقل بدل الأيام والأسابيع."
قال جابر : وكيف ذلك؟
قال الجني : إن للخاتم قدرة تسمح لصاحبه بتسخير الرياح لتكون له مركبا، وما عليك سوى طلب ذلك من الخاتم واترك الباقي عليه.
<><>
تعجب جابر من قول الجني وقرر تجربة الأمر، فطلب من الخاتم تسخير ريح توصله الى الحجاز وبالضبط عند باب المغارة حيث يوجد السلطان شهرمان. وفي الحال تشكلت ريح من العدم وحملت جابر والجني وطارت بهما نحو بلاد الحجاز، ووضعتهما أمام المغارة. دخل جابر المغارة فوجد السلطان ينتظره على أحر من الجمر وقال له : كنت أعلم أنك ستنجح بإذن الله وأنا عند وعدي لك بأني سأقلدك منزلة رفيعة ترضاها. لكن أولا دعنا نحرر بلاد الشام من السحرة الظالمين. والآن ضع الخاتم في أصبعي واترك الباقي علي. قام جابر بنزع الخاتم من يده ووضعه بأصبع السلطان فعاد الى شكله الطبيعي.
ومباشرة بعد ذلك قام بالمناداة على كتيبة الجن الذين كانوا على هيئة غربان فأشار بالخاتم نحوهم فعادوا لهيئتهم الطبيعية وأمرهم بأن يستعدوا فورا للانطلاق نحو بلاد الشام، وفعلا انطلقو ووصلو بلاد الشام وأجهزوا على جميع السحرة والمشعودين و خدمهم من العفاريت . وعاد السلطان الى الحجاز واستلم مقاليد الحكم وسعد أهل الحجاز, وأقامو حفلا ضخما فرحا بعودة سلطانهم إليهم. وخلال الحفل أرسل السلطان في طلب جابر، فلما حضر أجلسه بجانبه وأقر بفضله عليه أمام الملأ، وأطلع العموم على أن جابرا صار من ساعتها حاكم بلاد الشام وأنه سيكون أقرب المقربين إليه.
عاد جابر عند أمه وقبل رأسها وأخبرها بالذي صار معه. فرحت الأم كثيرا بنجاح ابنها والمنزلة التي وصل إليها. وانتقل جابر وأمه الى بلاد الشام, وكان خير حاكم, لخير بقاع الأرض.
.
وصلنا الى نهاية القصة, أتمنى أن تكون قد نالت اعجابكم.
إرسال تعليق