قصة : المولــودة والعفريت الظالــم
,
,يحكى أن امرأة عاقرا, كانت دوما تطلب الله أن يرزقها بمولودة, تسعد بها وتؤنسها وزوجها في وحدتهما. واستمر الحال على ما هو عليه سنوات عديدة. وفي أحد الأيام, وبينما كانت المرأة متوجهة نحو سوق المدينة, اعترضها لص وحاول سرقتها, فإذا بكلب أسود, ينبح في وجه اللص, فهرب اللص مرعودا. قالت المرأة في سرها: لإن رزقني الله ببنت لأزوجنها أسودا. ورغم أن المرأة كانت تعلم أنه لا يصح ذلك, إلا أنها لم تبالي لعلمها أن إنجابها لبنت, صار من المستحيلات بعد أن تجاوزت سن الخمسين.
مرت الأيام والشهور, وبدأت تحس بآثار الحمل تظهر عليها، فأدركت أن الله استجاب لدعائها. وخافت أن يكون المولود بنتا, فتضطر للوفاء بوعدها, بأن تزوجها أسودا. وفعلا, حصل ما كانت تخشاه, ورزقت بطفلة جميلة, كأنها القمر. سعدت المرأة وزوجها بمولودتهما, وأطلقوا عليها إسم أريج، و أضفت على حياتهما البهجة والفرحة والسرور، ونسيت معه المرأة وعدها.
مرت الأعوام, وبلغت البنت سن التعلم, وأدخلها أبواها كتابا, لتتعلم الكتابة والقراءة. وذات يوم, وبينما كانت البنت عائدة من الكتاب, جاءها أسود, ونبحها فخافت وابتعدت عنه، فاقترب منها وقال لها : قولي لأمك أن تفي بالوعد. عادت البنت عند أمها, ونسيت إخبارها بما أوصاها الكلب الأسود. وفي اليوم الموالي, لقيت الكلب في نفس المكان، فأوصاها مجددا بأن توصل حديثه لأمها، فوعدته بذلك, لكنها نسيت هذه المرة أيضا. تكرر الأمر عدة مرات, لكن البنت كانت تنسى كل مرة إخبار أمها بالأمر. وذات يوم, ولما لقيت أسود في نفس المكان، قام بأخذ لوحها الذي تحمله معها كل يوم الى الكتاب, وأخبرها ألا تنسى هذه المرة أيضا. فلما عادت إلى بيتها نسيت كعادتها، لكن الأم لاحظت أن بنتها لم تعد بلوحها ككل مرة, فاستفسرتها عن السبب، فتذكرت البنت هذه المرة حادث أسود, وذكرت لأمها ما حدثها به. تذكرت الأم الوعد الذي قطعته على نفسها وأصابها هم وغم. فلما عاد زوجها أخبرته بأمر الوعد. حزن هو الآخر كثيرا, لكنه قال لزوجته : لابد من الوفاء بالوعد.
وصار الأبوان يهيئان نفسيهما لفراق ابنتهما, وكانا يجفلان كل مرة, يطرق فيها الباب ظنا منهما أن أسود هو الطارق.
وذات يوم ولما اشتد عود البنت، سمع للباب طرق، جفلت الأم وراحت لتنظر الطارق، فإذا به أسود في الباب، فأدركت قصده دون أن ينطق بكلمة واحدة، وتوجهت عند ابنتها وقالت لها: "هيئي نفسك يا ابنتي." وأخبرتها بأمر الوعد. تقبلت البنت الأمر بصدر رحب, وقامت بتهييئ نفسها, وودعت أمها تاركة إياها تبكي بحرقة. و طلبت من أسود أن يرافقها عند المحل حيث يعمل والدها, فساروا حتى لقيته وعانقته وودعته وداع الفراق. ثم صار بها أسود حتى بلغا مكانا خارج أسوار البلدة وبعيدا عن الأنظار. فطلب منها أسود أن تمتطي ظهره، فامتطته, وطار بها محلقا في السماء، وبعد مدة من التحليق للأعلى سألها : "كيف هي الأرض؟" فأجابته بأنها مثل بساط يكسوه اللون الأخضر والبني. فصار يعلو بها أكثر ثم سألها : "كيف هي الآن؟" فردت عليه بأنها صارت كصحن كبير. فعلا بها أكثر وأكثر, ثم طرح عليها نفس السؤال, فأخبرته أن الأرض صارت كالبيضة. فتوقف عن الإرتفاع, وإذا بقصر كأنه ظهر من العدم. فحط بها أسود في ساحة القصر, وكانت أرضه من الزمرد, وأعمدته من الرخام, وسقفه من الذهب المرصع بالياقوت, ويتناثر في أنحائه عطر المسك والياسمين.
ترك الكلب أسود الفتاة منبهرة تجول المكان, وغادر. بقيت الفتاة تطالع روعة القصر وفخامته, حتى دخلت صالة مفروشة بأبهى مفروشات الحرير والقطن، ومزينة بأفخر الأواني الفضية والفخارية، وتتوسط الصالة مائدة مليئة بكل ما تشتهيه النفس من طعام. وكانت الصالة ذات واجهة مفتوحة, وتطل على حديقة ساحرة المنظر، مترامية الأطراف, ولا تحدها العين من شدة شساعتها، بها بركة تزينها أسماك بألوان زاهية, و طيور وغزلان، وأشجار مزهرة, منها العنب والرمان, تحيط بالمكان. نزلت الفتاة الى الحديقة, وصارت تتسلى وتكتشف المكان. مر الوقت بسرعة وبدأ الظلام يسود، فعادت الى الداخل وكانت متعبة, واستلقت في ركن من الصالة واستسلمت لنوم عميق من شدة التعب الذي مر عليها يومها. ولما حل الصباح استيقظت على زقزقت العصافير و عطر الزهور الفواحة. وكانت سعيدة للغاية, لأنها كانت تستيقظ دوما على صراخ أمها لتساعدها في مهام البيت. ثم لمحت الكلب يشرف على الخدم وهم يحملون إليها ما لذ وطاب من الأطعمة والأشربة, والأثواب الحريرية، التي كانت تزيدها جمالا فوق جمالها. وكانت تنزل للحديقة كل يوم، و كلما نزلت إليها, إلتفت حولها الحيوانات, واقتربت منها الأسماك, وحطت بالقرب منها الطيور, كأن كل تلك الحيوانات تطلب ودها وتريد قول شيء لها، وبدأت الفتاة تحس أن تلك الحيوانات حزينة, وتعجز عن البوح بما في خاطرها.
كانت أريج تتساءل طيلة مكوثها في القصر عن سر ذلك المكان, وعن سبب تمتيعها هي بالذات بكل تلك الرفاهيات، فسألت أسود عن ذلك، فأخبرها أنه يطيع أوامر سيده, بأن يهيئها للزواج به, وأخبرها أن سيده أمير وسيم, تتمنى أي فتاة أن يصير لها زوجا، وأن موعد الزواج هو يوم اكتمال القمر من ذلك الشهر. وكان الكلب يجلس دائما بالقرب من المائدة حيث تتناول الفتاة طعامها ويحدق بها بإعجاب وعطف كأنه يهتم لحالها. وكانت الفتاة تعلم أنه كلب غير عادي, وربما يكون مسحورا لهيأته تلك. وكانت كلما حضر وقت الطعام دعته لمشاركتها، لكنه كان يرفض دائما, فبدأت تلح عليه وتطعمه من يدها وتمسح على رأسه وتعطف عليه. ومع توالي الأيام توطدت علاقتهما ببعض، فقرر الكلب أن يبوح للفتاة بالسر الذي أخفاه عنها طيلة تلك المدة، فاقترب منها وقال : "أريد أن أبوح لك بسر أخفيته عنك, وعن كل الفتيات اللواتي سبقنك، إن سيدي الذي يبغي الزواج بك, ما هو إلا كبير العفاريت وليس بإنسي، ولقد جرت العادة على أن يتزوج بفتاة كل شهر, في ليلة اكتمال القمر، ولقد سار أجداده على هذه العادة بعدما بدأ نسلهم بالتناقص."
قالت الفتاة : "وما الضير في ذلك, فلست أنا أول فتاة ستتزوج بجني، المهم أنه سيعتني بي, ويعيشني عيشة الأميرات."
قال أسود : "بل سيحولك إلى حيوان بعد أن تنجبي له عفريتا, يحفظ نسله, وهذا غرضه منك, ومن من سبقك." ثم تابع الكلب أسود كلامه قائلا : "إن كل تلك الحيوانات التي ترينها في الحديقة, ما هي إلا فتيات جميلات مثلك في الأصل، وقد حولهن جميعا الى حيوانات, بعد أن نال مبتغاه منهن. وأنا أيضا كان إسمي شيراز, وكنت عفريتا أخدمه، وذات يوم, ولما أنكرت عليه فعله, غضب علي, وحولني الى كلب.
شحب وجه الفتاة, وتحولت سعادتها العارمة الى خوف ورعب وقلق. فهدأ أسود من روعها, ووعدها أن يساعدها في الهروب، وأخبرها أن العفريت, إذا تحول الى شكل مغاير لشكله الحقيقي, فإنه يكتسب صفات الشكل الذي تحول إليه، أي أنه عندما سيتحول الى شاب وسيم, سيسير عليه ما يسير على الإنس, وتختفي عنه قوة العفاريت ساعتها، وهنا مربط الفرس، حيث سأقوم بتحضير شراب العنب المركز, لتقدميه إليه في ليلة الزواج, وعندما يشرب منه وتشعرين أنه بدأ يفقد وعيه, إطعنيه بسكين سام, سأمدك به فيما بعد، وبعدها سأقدم لمساعدتك وتهريبك من هذا المكان. ويجب عليك قتله, لأن بقاءه حيا, يعني أنه سيجدنا لا محالة, وينتقم منا شر انتقام.
وافقت أريج, فليس بيدها حيلة. ومن يومها لم تعد تتناول الطعام, كما كانت تفعل من قبل وكان أسود يوصيها أن تحامل نفسها على ذلك, لأن كبير العفاريت سيكتشف أمرهما إن بقيت على حالها متوترة وهزيلة.
جاء اليوم الموعود، واكتمل القمر، وجهز أسود أريج أحسن تجهيز لاستقبال العريس, ومدها بالسكين المسموم، وقادها للغرفة, حيث ستقابل زوجها العفريت. جلست الفتاة متوترة تنتظر قدوم العفريت.
وما هي إلا لحظات حتى طرق الباب, ودخل عليها، فإذا به شاب وسيم بهي الطلعة متناسق الجسم أنيق الملبس، يفوح منه عطر يأسر الروح, لم تشم أريج مثله قط في حياتها. فبادرها بالتحية أولا, ووصفها بأحسن الأوصاف ودللها وقدم إليها ما تصبو إليه نفسها من حلي وجواهر وذهب, لم ترى عينها أجمل منه. حتى كادت تكذب ما أخبرها به الكلب شيراز, وتصدق العفريت. لكنها استدركت على الفور سهوتها, ولاحظ العفريت ذلك, فسألها عن سبب توترها وشحوب وجهها, كانت الفتاة ذكية وفطنة, فادعت أن التوتر بسبب أنها لأول مرة تقابله، ثم تابعت حديثها واصفة إياه بالشاب الوسيم, الذي تتمناه أي فتاة, وستكون سعيدة به زوجا لها.
سعد العفريت بكلامها, وقدمت له الشراب الذي أعده أسود، وما هي إلا لحظات, حتى بدأ العفريت يفقد وعيه لكنه ظل يكابر ويقف على قدميه, وكانت الفرصة ساعتها مواتية للفتاة, لكي تطعنه بالسكين المسموم لكنها ترددت وخافت, ولم تستطع فعل ذلك. وفي هذه اللحظة بدأ العفريت بالإقتراب والتودد منها. فلم تدر الفتاة ما تفعله, فالتفتت ووجدت آنية فخارية, فحملتها وكسرتها على رأسه, فخر مغميا عليه, وتحول إلى شكله القبيح. وفي تلك اللحظة دخل أسود وأدرك حجم المصيبة التي أوقعوا نفسهم فيها، فنادى على أريج أن تأخذ المفتاح من على عنق العفريت وتتبعه, حتى يهربا قبل أن يستعيد كبير العفاريت وعيه, وينتقم منهما, ففعلت.
وصارا يركضان نحو البوابة، فلما وصلاها فتحوها باستعمال المفتاح, وامتطت الفتاة ظهر أسود, وطاروا نزولا مبتعدين عن القصر، وبينما هما يبتعدان كانت أريج تبكي وتتأسف لأسود ضعفها, وعدم امتلاكها الشجاعة لغرز السكين في العفريت.
سامحها أسود وقال لها : "لا عليك فلو كنت أستطيع أنا ذلك لفعلت بدلا عنك، لكنني أنا وباقي الخدم من العفاريت, لا نستطيع مجابهة كبير العفاريت أو الإقتراب منه حتى، بسبب السحر المعمول علينا." ثم سألته الفتاة عن وجهته، فأخبرها أنه من غير الحكمة العودة الى بيت أبويها، وأنهم سيتوجهون نحو قبيلة جن طيبين, ليطلبوا المأوى عندهم. فلما وصلوا قبيلة الجن, وحكو لسيدهم قصتهم، خاف من بطش كبير العفاريت واعتذر عن إيوائهم. وكلما ذهبا عند قبيلة من الجن ووجها بالرفض. فلما بدأ الظلام يخيم على الغابة, صارا يبحثان عن مكان يأويهما تلك الليلة. وبينما هما يبحثان, لمحا ضوء خافتا فاقتربا منه, وكان كهفا, وأرادا دخوله, فسمعا صوتا يقول:
"ما الذي دفعك أيتها الفتاة الى اتخاذ ذلك الكلب المسحور رفيقا لك؟ بئس الرفيق هو، وما دام هو معك, فلن أسمح لك بدخول الكهف."
قالت الفتاة : "أرجوك أيها السيد أن تسمع قصتنا أولا."
خرج الشيخ من الكهف وقال : "هات ماعندك أيتها الفتات, فإني قرأت في صوتك الصدق."
فحكت له أريج قصتها من أولها إلى آخرها.
صدقها الشيخ, وأعد لهما طعاما, واتخذ زاوية من الكهف يتلو فيها صلاته، فأدركا أنه ناسك, وقد وهب حياته للعبادة.
ومن الجهة الأخرى, وبعد أن استفاق كبير العفاريت من غيبوبته، جمع جنده وخدمه, وأمرهم أن يتفرقو ويستقصوا مكان الكلب شيراز, والفتاة. تفرقوا وبدأووا بالبحث, فمنهم من راح يبحث في قرى وبلدات الإنس، وآخرون توجهوا نحو قبائل الجن، لكنهم لم يجدوا أثرا لهما. فلما عادوا وأخبروا كبير العفاريت بذلك, جن جنونه, وقرر البحث عنهما بنفسه، فتحول لخنزير, و نزل للغابة يصول ويجول. وكلما التقى بحيوان ولم يجد عنده جوابا عن مكان الكلب والفتاة، أرداه قتيلا, و علقه على غصن شجرة, حتى يعرف الجميع أن كبير العفاريت مر من هناك, ويتفاخر بجبروته. واستمر على فعله, حتى لقي بومة, فسألها قائلا : "يا أيتها البومة الساحرة الشكل، ألم ترى عيناك الجميلتان كلبا تصحبه فتاة؟" فأجابته : "إن كنت تقصد الكلب الأسود والفتاة التي تمتطي ظهره, فأنا أعلم أي الطرق سلكى، لكنني أريد منك أن تأذن لي, بافتراس ما علقته على الأغصان, مكافأة لي." وافق كبير العفاريت على طلبها, وأخبرته بالمسار الذي سلكاه. فصار يتبع طريقهما, وهو يتهكم من غباء البومة قائلا : "لو كانت طلبت نصف ملكي لوهبتها إياه, لتدلني على مكان الكلب والفتاة. يا لها من بومة خرقاء." تابع الخنزير سيره, حتى تراءت له سحابة من الدخان المتصاعد.
فتوجه نحوها وهو يردد: "أظننتما أنكما ستخدعانني كما خدعتم جنودي؟ اليوم سأنتشي بتعذيبكما لتعود لي هيبتي بين بني جلدتي, ثم أنهي حياتكما لتكونا عبرة لغيركما." فلما وصل وجد كهفا يجلس ببابه ذلك الناسك, فعلم الخنزير أنه يأويهما في الداخل, بعد أن اشتم رائحتهما. فقال للناسك : "إذا أردت الحفاظ على حياتك’ فأخرج لي الكلب والفتاة, وإلا لن تكون نهايتك أفضل من نهايتهما."
لم يلتفت الناسك نحوه, ولم يعره اهتماما، فثارت ثائرة الخنزير, واتجه نحوه يبغي نطحه. لكنه ارتطم بشيء ما, وسقط يتوجع في مكانه من شدة الألم وكان شيء ما يحمي الناسك, وكأنه حائط غير مرئي. فلما نهض الخنزير قال له الناسك : "أمازلت تريد الكلب والفتاة؟ لم يدر الخنزير ما الذي ابتلي به, و أدرك أن قوة خفية تحمي الناسك وأنه لا فائدة من استعمال القوة ضده. فقرر أن يسايسه, عله يحصل منه على مبتغاه. فقال له : "إن كنت تريد فتاة أعطيتك اثنتين شقراوتين كضي القمر، وإن كنت تريد كلبا, فلك واحد يسابق الريح."
نظر إليه الناسك نظرة حادة وقال: "لقد ساقك القدر إلي لآخذ حقي منك، بالتأكيد لم تعرفني, لكني أعرفك جيدا ولابد أنك تريد معرفة من أنا, وماذا يجمعني بك."
لم يتعرف إليه الخنزير, وبدأ يحدق فيه بإمعان, عله يهتدي لمعرفته.
قال الناسك: "لا داعي للتفكير فلن تعرفني، لكنني سأخبرك من أنا. أنا ابن تلك الفتاة التي أحضرها إليك جندك, واكتشفت بسحرك أنها حامل, فألقيت بها في الغابة, لتأكلها السباع، لكن الله نجاها. فأنجبتني ورعتني حتى بلغت العامين. وبعد أن وصل الى علمك أنها لم تفارق الحياة, أرسلت جنودك ليحضروها إليك من جديد، فلما جاءوها, لم تتحمل هول الأمر عليها, ففارقت الحياة.
فلما سمع الكلب كلام الناسك, خرج من الكهف وقال: "يا سبحان الله! أأنت ابن تلك الفتاة؟ لقد اقترحت عليها ساعتها أن تمتطي ظهري لأوصلها لمسكنها، لكنها رفضت خوفا من أن يلحق بأبويها أذا من العفاريت بسببها. وقررت المكوث في الغابة." سخر الخنزير من قصة الناسك وقال : "ربما تكون قصتك قد وقعت بالفعل, لاكنني لا أتذكر تلك الفتاة, لكثرة الفتياة اللواتي رميت بهن الى الغابة. وأنت أيها الكلب شيراز, فلقد كنت عطوفا بك عندما حولتك لكلب, وأدركت الآن, أنه كان علي التخلص منك من البداية. لكنني أعدكم أنني سأعود لأمحوكم من الوجود."
إنسحب الخنزير لإدراكه, أنه لا يستطيع مواجهة الناسك وحده، لأن قوة خفية ما, كانت تقف إلى جانبه، وعقد العزم على الرجوع الى قصره, حتى يعد العدة ويجمع الجنود, ثم يغير عليهم آنذاك.
غادر كبير العفاريت, لكن الكلب علم بخطته, وأنه سيعود لا محالة. فأخبر الناسك بذلك. فقال الناسك: "يجب علينا أن نغير هذا المكان, ونفاجئه بشيء لم يتوقعه.
قال الكلب : "كيف ذلك؟"
قال الناسك: "سنتوجه أنا وأنت نحو قصره, فلقد علمت أن بقصره سراديب تحمل أسرارا لا يعلم بها إلا الله، والمفتاح الذي أخذته منه, هو القادر على فتح تلك السراديب." وافق الكلب على خطة الناسك لكن أريج أرادت مرافقتهما, فطلب منها الكلب أن تنتظرهما في الكهف, لأن الوضع سيكون خطيرا عليها هناك, وأوقد لها حطبا وأخبرها أنهما سيعودان, قبل أن تنطفئ شعلة الحطب. وأعطاها ريشة, وأوصاها إن هي أحست بخطر يقترب منها, أن تحرقها, وسيحضر في الحال صديقه طائر العنقاء, وسيحملها لأي مكان تريد، ثم ودعاها وانطلقا يقصدان القصر. وفي طريقهما سأل الكلب الناسك: "كيف استطعت النجاة لوحدك في الغابة وعمرك آنذاك لا يتجاوز السنتين؟ ولماذا لم يستطع كبير العفاريت مواجهتك, رغم قوته وجبروته؟"
قال الناسك : "بعد أن توفيت والدتي, جاهدت نفسي, ومشيت حتى وصلت الكهف حيث لقيتموني, فدخلته واحتميت به, فلما اشتد علي الجوع, دخل علي شيخ جليل, وأخبرني أنه هو الخضر, وأحضر معه عنزة, تدر حليبا وفيرا لا ينقطع, و شمعة لا تنطفئ, وفجر بالقرب من الكهف, عين ماء عذب, ثم انصرف. وكنت كلما جعت, شربت من حليب العنزة, فاشتد عودي وقوي عظمي, وصرت أصرع سباع الغابة ووحوشها بفضل الله, ثم البركة التي مدني بها سيدنا الخضر."
اندهش الكلب لقصة الناسك, واندهش أكثر من خروج الخضر في هذا الزمان والذي مر على آخر حقبة ظهر فيها, مئات السنين. وفي هذه اللحظة, وصلا القصر. و وجدا الباب مفتوحا على مصراعيه, فدخلاه وبدأى يبحثان في السراديب عن شيء يساعدهما. فلما دخلا السرداب الأول, وجدا توابيت ذهبية مرصوصة بجانب بعضها, فقال الكلب : "هذه التوابيت, تعود للملوك العفاريت الذين توالو على حكم مملكة العفاريت. ولا يوجد ما ينفعنا هنا." فغادراه ودخلا السرداب الثاني, فوجدا به كل أنواع الأحجار الكريمة, والمعادن النفيسة, والأثواب الفاخرة, فأدركا أنها خزنة كبير العفاريت. فغادراها ودخلا السرداب الثالث. كان شديد الظلمة, والغبار يغطي المكان كأنه لم تطأه قدم أحدهم منذ مدة بعيدة. فصارا يستكشفان المكان, حتى عثرا على رف من الكتب القديمة و المتهالكة, فاطلع الناسك عليها, واحدا تل والآخر, حتى وصل الى كتاب مسح عنه الغبار. فأدرك أنه كتاب شمس المعارف، والذي كان يظن أنه مجرد خرافة.
وبعد أن تصفح أوراقه وقرأ وصفاته، قال للكلب: "لقد وجدت طريقة في الكتاب, تجعلك تعود لشكلك الطبيعي, بل وتغييرك للشكل الذي تحبه, كأن أجعلك شابا وسيما, لتستطيع أن تكون زوجا لأريج." ضحك الكلب وقال: "علمت بإحساسي تجاهها؟ يا لك من دقيق الملاحظة أيها الناسك."
وفي هذه اللحظة, سمعا صوت باب السرداب يفتح! فإذا به كبير العفاريت, يحفه جنوده وقال: "لقد علمت أنكم ستستغلون بقاء البوابة مفتوحة لتقوموا باختراقي من الداخل, وها أنتم الآن تحت رحمتي." فألقى كبير العفاريت عليهما بمسحوق سحري, خرا على إثره مغميا عليهما, واستعاد كبير العفاريت مفتاح باب القصر من الكلب. ثم حملهم جنود العفاريت الى ساحة الحكم, لينفذ عليهما الحكم الظالم, لكبير العفاريت. ويستعيد بذلك شيء من هيبته وسيطرته على مملكته التي كادت تتداعى, بعد سرقة مفتاح القصر منه. ثم تذكر أمر الفتاة أريج, التي غضرت به, فجمع الجنود, وقرر أن لا يبدأ عقابه إلا وهي حاضرة بين المعاقبين. فبدأ الإستعداد وجنوده للخروج لإحضارها. وفي هذه اللحظة كانت أريج قد وصلت باب القصر, بعد أن لم تستطع ترك الكلب والناسك ليواجها مصيرهما لوحدهما, فلقد أحرقت الريشة التي أعطاها أسود, ليحضر طائر العنقاء, فلما حضر, طلبت منه أن يلحق بالكلب والناسك. وبذلك استطاعت أن تصل الى بوابة القصر, قبل أن يخرج كبير العفاريت للبحث عنها.
فدخلت القصر, واختبأت لما رأت كبير العفاريت وجنده قادمين نحو البوابة، وبقيت تراقبهم حتى خرج الجميع, وأقفلو خلفهم البوابة. وراحت تبحث عن الكلب والناسك حتى وجدتهما في ساحة الأحكام, فقال لها الكلب : "لماذا لحقتي بنا إلى هنا؟" فقالت : أحمد الله أنني لم أسمع لكلامك, و غادرت المكان قبل أن يصل كبير العفاريت إلي." ثم فكت قيدهما. فقام الناسك, وبدأ بالركض في اتجاه السرداب الأول, كأنه تذكر على الفور أمرا كان قد نسيه, فصاح الكلب : "أين أنت ذاهب أيها الناسك؟" ثم تبعاه حتى لحقى به, ووجداه يحاول فتح تابوت الملك الأول للعفاريت, والذي بنى ذلك القصر, و أنشأ مملكة العفاريت أول مرة. واستطاع أخيرا فتحه وصاح قائلا : "لقد صدق توقعي." ثم أخرج قلادة عجيبة من الثابوت, لم يرو لها مثيلا قط. قال الكلب: "ما هذه القلادة العجيبة؟ ومن أعلمك بوجودها في التابوت؟"
قال الناسك : لقد هداني الله لأفطن الى أمر هذه القلادة. فبعد أن رأيت قوة و بطش كبير العفاريت وجنده, والتي فاقت بدرجات قوة قبائل الجن الأخرى، أدركت أن هذه القوة ليست من فراغ, بل هي فعل فاعل. وبما أنهم عرفوا بتلك القوة منذ بداياتهم, فلقد فطنت الى أن سيدهم الأول, يحمل سر القوة التي ميزتهم عن غيرهم، وهذه القلادة والله أعلم هي التي تمدهم بتلك القوة."
قال الكلب: "وبماذا ستفيدنا هذه القلادة؟"
أجابه الناسك : "إن كانت القلادة فعلا مصدر قوة العفاريت, فسينتهي أمرهم بمجرد تحطيمها."
وما كاد الناسك ينتهي من كلامه, حتى فتح باب القصر! و رأو كبير العفاريت والجنود, قادمين نحوهم بأقصى سرعتهم, يبغون أذيتهم. فأسرع الناسك وألقى بالقلادة في اتجاه الكلب وقال له : "حطمها بأسنانك القوية الى أشلاء." فالتقطها الكلب شيراز, وضغط عليها بأسنانه ضغطة تحطمت على إثرها القلادة الى أجزاء صغيرة. وفي تلك اللحظة, بدأ القصر يرتج تحت أقدام الجميع, فامتطت أريج ظهر الطائر العملاق, وامتطى الناسك ظهر الكلب, وطاروا جميعا مبتعدين. وبعدها خر جميع الجنود العفاريت, واختفت القوة التي كانوا يبطشون بها, وتحولوا الى مخلوقات ضعيفة, كالبشر أو أقل.
وكذلك كبيرهم، فلقد جحظت عيناه وخارت قواه, وتسمر مكانه وصرخ قائلا : "لقد ارتكبت خطأ فادحا عندما حولتك أيها العفريت شيراز الى كلب, وظننت أنني بذلك, سأكسر شوكتك وأذلك، لكنني أخطأت أيما خطئ عندما لم أقتلك من البداية."
قال ذلك, ثم توجه نحو القبو, حيث يرقد أجداده, وخر ميتا من هول ما حل به. وكان بذلك آخر غصن من شجرة ملوك مملكة العفاريت, وملك العفاريت الوحيد, الذي لم يحظى بتابوت ذهبي, كبقية الملوك الذين سبقوه. دمر القصر عن آخره, وتحولت الحيوانات الى شكلها الحقيقي وصاروا فتيات جميلات كما كن من قبل أن يسحرهم كبير العفاريت. ثم انطلق الجميع عائدين نحو البلدة, حيث تسكن أريج, وهناك التقت أريج بوالديها وفرحوا بعودتها, وأقاموا الولائم. وكان الكلب شيراز, سعيدا بعودة أريج الى والديها, لكنه كان حزينا في نفس الوقت, من بعد ما طمر كتاب شمس المعارف, تحت أنقاظ القصر, والذي كان سيجعله شابا, تقبل به أريج عن قناعة زوجا لها. وفي تلك اللحظة, لاحظ الناسك حزن الكلب, فاقترب منه وقال: "ستصير شابا وسيما بإذن الله." ثم أخرج من جيبه ورقة, كان قد انتزعها من الكتاب وخبأها في جيبه, قبل أن يدخل عليهما كبير العفاريت ويأسرهما. فرد الناسك الورقة وصار يقرأ الكتابة التي خطت عليها، وفي الحال! تحول الكلب شيراز, الى شاب وسيم, وتزوج من أريج. و كذلك الناسك, فلقد تزوج هو الآخر من فتاة جميلة, واستقروا جميعا في البلدة, وعاشوا عيشة هانئة. أما مملكة العفاريت, فقد نسي الناس أمرها بعد أن انقطع نسلهم, وسلم الناس, من شرهم.
👍
ردحذف