U3F1ZWV6ZTU1MjI4MjY1ODc1ODM4X0ZyZWUzNDg0Mjc2NTc1MDMyMA==

 

قصة : صرخة البئر







قديما و في أرض صحراوية بعيدة، كانت هناك بلدة اسمها آتول. وكانت غاية في الجمال، دائمة الخضرة، وينبع فيها الماء دون توقف، كان سكان تلك البلدة من أسعد سكان الخليقة، وكان جلهم يعمل في أرضه، يزرعها ويسقيها، ويجني ثمارها ويتنفع بخيراتها، وكان التجار يتقاطرون على البلدة من كل الأنحاء المجاورة، ليتسوقو منها ما لذ وطاب من فواكه وخضر، ومواش وطيور، وباتت تعرف البلدة بجنة الأرض الخضراء.
مرت الأيام والسنين على هذا الحال حتى جاءت السنه, التي ستنقلب فيها البلدة من جنة غناء، الى أرض قاحلة جرذاء، بعد أن جفت الينابيع من الماء،  ولم يعد أهل البلدة يجدون ما يكفيهم من القوت والماء.
أحس سكان البلدة بالعجز والضعف, أمام الحال الذي آلت إليه بلدتهم، لكنهم لم ييأسو، وقرروا أن يحددوا يوما يجتمع فيه سادة البلدة،  ليحاولوا إيجاد حل للوضع الذي حل بهم.
جاء يوم الاجتماع وبدأ كل واحد من سادة البلدة، يقترح حلا يخرجهم من الأزمة التي لحقتهم. قال احدهم : "نجمع رحالنا ونبحث عن بلدة تأوينا."
وقال آخر : "نصبر ونقترض حاجتنا من البلدات المجاورة، حتى تنفرج الأزمة وتعود المياه لمنابعها. "
بعد نقاش طال لساعات, لم يخرجو منه بحل ناجع، قرروا أن يستشيرو شيوخ البلدة، وبالأخص، الشيوخ الذين كانو قد عاصروا أزمة جفاف ضربت البلدة منذ ما يقرب من السبعين سنة.
بعد بضعة أيام اجتمع أسياد البلدة وهذه المرة, أحضروا جميع الشيوخ الذين عاصروا أزمة الجفاف السابقة، وحاولو أن يستنبطو منهم حلا لمعضلتهم، لكن الشيوخ عجزو عن تذكر الواقعة من الأساس، بسبب خرفهم وتأثير العمر على ادراكهم، وبعد ان نال اليأس من الحاضرين ما ناله، تفاجؤو بشيخ يصرخ قائلا: "لقد استيقظت السعلوه!" قالها ثلاث مرات ثم سكت، و حاولو بعدها أن يستفسروه عن مغزى كلامه, لكن دون جدوى، فلقد سكت ولم يتفوه بأي كلمة بعدها.
<><>
وكان من بين أسياد القوم شخص فطن وذو فراسة إسمه جابر، وهو ابن الشيخ الذي صرخ. كان جابر يسمع دائما أباه يحاور أمه ويقول لها "أطعمي المسكين مما نأكله, ولا ترديه خائبا كيفما كان الحال حتى يداوم الله ما تفضل به علينا، ويبعد عنا شرها." و كانت أم جابر كلما سمعت ذلك من زوجها سألته عن طينة تلك التي يدعوا الله دائما أن يبعد عنه شرها. فلم يكن يجيبها عن ذلك, وكان يجد دائما حجة لألا يجيبها، فلم تعد تسأله بعد ذلك.
فلما تذكر جابر كلمات أبيه أخبر القوم بذلك، وأشار عليهم بالبحث عن الذين كانو بأمس الحاجة للعون أيام كانت فيه البلدة تنعم بالخيرات، عله يجد الإجابة عند هؤلاء المحتاجين. وبفطنته أدرك أن المحتاجين ساعتها كانوا يأتون من مناطق نائية عن البلدة, لأن جميع سكان البلدة كانوا يعيشون رغد الحياة آن ذاك.
اقتنع سادة القوم بكلام جابر، لأنه كان أقرب التفاسير لما قاله الشيخ الهرم، ولأنه كان بصيص الأمل الوحيد الذي تبقى لهم. وفي حينها بدؤوا في تشكيل أربع بعثات, وأزمعوا على أن كل بعثة تأخذ اتجاها من الإتجاهات الأربع. في الصباح الموالي بدأ البحث في القرى والأرياف المجاورة، واستمر لأيام، حتى وصلت المجموعة المتجهة شرقا إلى كوخ قديم في قرية نائية, تبعد عن البلدة مسيرة خمسة أيام، كانت جنبات ذلك الكوخ مليئة بالخضرة و الأشجار المثمرة, و تنبثق بجانب الكوخ عيون ماء صافية، تروي حديقة الكوخ, رغم الجفاف الذي يضرب المناطق المجاورة، والعجيب أن هذه المياه لا تتجاوز صور الحديقة بل تشق طريقها بين الأغراس والأشجار, ثم تعود للنبع الذي خرجت منه. اندهشت البعثة من هذا المنظر الذي لم يرو له مثيلا من قبل, وقرروا التوجه نحو الكوخ، و طرقوا بابه، فإذا بشيخ  كهل تجاوز عمره المئة سنة, يمشي مشية متثاقلة، يتمايل يمينا ويسارا يكاد يسقط لولا عكازه الذي يستند عليه. سأل أحد أفراد البعثة الشيخ بدون أية مقدمات: "هل أنت ساحر أم مشعوذ؟" أجابه الشيخ بابتسامة خفيفة تعلو محياه : بل أنا مجرد عجوز خرف. ودعاهم لكوخه رغم فظاظة حديثهم, وكان له بنت وحيدة فطلب منها إكرام الضيوف، فأكرمتهم, وأعدت لهم ما لذ وطاب من طعام وشراب لم يتذوقوا مثله منذ مدة.
<><>
 شكروا الشيخ وابنته وقرروا العودة الى البلدة, وإخبار أسياد القوم بما شاهدوه. بعد أن علموا بما حدث مع بعثة الشرق, قرروا أن يجمع القوم أمتعتهم, ويشدوا الرحال, ليستقروا بالقرب من حديقة الشيخ صاحب الكوخ.
وبالفعل، فبعد أيام من السفر، وصل سكان البلدة الى المكان المنشود. وبنوا خيامهم و بدؤوا مباشرة بشق مسرب للماء, يصل بين حديقة الشيخ, والأراضي التي ينوون غرسها.
وهنا كانت المفاجأة، حيث أن الماء يأبى أن يبرح مكانه, بل يبقى داخل حديقة الشيخ مهما حاولوا تغيير مساره. هنا أدرك القوم أن هذا ليس بعمل بشر بل هي قوة خفية, تحمي المياه من التسرب خارج الحديقة. هنا اجتمع سادة القوم, وقرروا الذهاب عند الشيخ, ليعلموا منه سر الحديقة, والماء الذي لا يبرحها. سار سادة القوم نحو الكوخ حيث يسكن الشيخ، وطلبوا منه أن يستقبلهم في كوخه ليستفسرو منه عن أمر الحديقة. استقبلهم الشيخ بصدر رحب. وأكرمهم, ثم جلس يستفسرهم عن مسألتهم التي  جاءوا من أجلها. فقال أحد الأسياد : "نعتذر إليك أيها الشيخ عن ما بدر منا عند محاولتنا شق مسرب للماء دون استئذان منك، وكما تعلم فإن البلدة أصابها قحط، ولم نجد ما نطعم به أهلنا وجئنا نبغي منك مساعدتنا لإيجاد حل للأزمة التي حلت علينا. ولقد عجبنا لأمر الحديقة والماء الذي لا ينقطع فيها, و لا يبرح أسوارها فهل لك أن تشفي فضولنا؟"
قال الشيخ الكهل : لقد حاول أناس كثيرون قبلكم أن يشقوا مسربا خارج حدود الحديقة وباءت كل محاولاتهم بالفشل. ولقد أوصاني والدي كما أوصاه جده أن يكرم الضيف, وكان يوصيني بذلك دوما, وربما هذا هو سبب بقاء عين الماء تنبع داخل حديقتي, رغم الجفاف الذي يجتاح باقي المكان, لكنني لا أعرف سبب نضوب ينابيع الماء في البلدة. أما الماء الذي يأبى تجاوز أسوار الحديقة, فلا أعلم سبب ذلك, فأنا ومنذ وعيت, وجدت عين الماء كما رأيتموها, وحتى والدي هو الآخر لا يعلم سبب ذلك. لكن هناك أمر ما علي أن أخبركم به. وهو أن بالقرب من هذا الكوخ يوجد بئر عميق, يشاع أن بداخله سر عين الماء في الحديقة. و قد أوصانا أجدادنا أن لا ندخل البئر لكنهم أوصونا أيضا ألا نمنع من أراد دخوله واستكشاف أسراره. لكنني أنبهكم إلى أن كل اللذين دخلوا البئر لم يخرجوا منه الى يومنا هذا ولقد  أقفلت البئر بعد أن أيقنت أنهم لن يعودوا. فإن أردتم أن تدخلوه فتحته لكم, والقرار الأخير يعود إليكم.
<><>
صار أسياد القوم ينظر بعضهم لبعض, ووجدوا أنفسهم عالقين في مأزق حرج، فلا هم يقدرون على تحمل الجوع والعطش ولا هم يأمنون دخول البئر, الذي لم يعد منه أحد. فتقدم للحديث أحد السادة قائلا : "نشكرك أيها الشيخ الجليل على كرمك وحسن استقبالك، سنغادر الآن ونجتمع نحن سادة القوم ونرى ماذا سنقرر ساعتها."
فغادروا الكوخ والتحقوا بخيامهم على أن يجتمعوا صبيحة اليوم الموالي, ليقرروا ماذا ستكون خطوتهم القادمة. صباحا ولما اجتمع أسياد القوم وشيوخهم, خلصوا إلى أن دخول البئر ملقاة للتهلكة, وأنهم سيعودون نحو ديارهم, آملين أن يلحق بهم لطف الله. فجمعوا أمتعتهم وخيامهم. وأثناء استعدادهم للمغادرة جاءهم الشيخ الكهل وقال: "كما تعلمون فإن حديقتي صغيرة لا تكفي غلتها سوى لإطعامي أنا وابنتي، و ما زاد عن حاجتنا نكرم به الزائر والمحتاج. ولقد كانت غلة الحديقة وفيرة لهذا العام, وادخرنا منها ما يكفي لإطعام بعضكم لمدة أسبوع، وأنا أقترح عليكم أن تتركوا الأطفال والنساء والكهل في خيمة بالقرب من كوخي وسأتكفل بإطعامهم من ما جاد به الله علي، وأنتم وأشداء القوم يمكنكم ساعتها أن تبحثوا خلال ذلك الأسبوع علكم تجدون ما ينفعكم."
شكر أسياد القوم كرم الشيخ، وأخذوا برأيه, وقاموا بترك الأطفال والنساء والكهل, بخيمة قرب كوخ الشيخ, وتوزع الباقون. وانطلقوا يبحثون عن أرض خصبة أو نبع ماء ينتفعون منه. مرت ثلاثة أيام, ومازال البحث جاريا، حتى وصلت البعثة التي يقودها جابر قرية إستأذن قاطنيها, فامتنعوا عنهم و رفضوا استقبالهم، لكن شيخ تلك القبيلة اعتذر منهم ورحب بهم وأدخلهم داره وأكرمهم. لكن لاحظ جابر أن الطعام شحيح. فسأل شيخ القبيلة عن حال الماء عندهم.
فقال له الشيخ : "إن قريتنا تمر بأسوء فترة جفاف شهدناها منذ قرابة السبعين سنة, وماكنتم لتجدونا مستقرين بقريتنا, لولا عين الماء الوحيدة, التي مازالت تنبع رغم ضعف صبيبها، والتي لا تكاد تكفينا لجميع حاجاتنا."
سأله جابر : وما سر تلك العين مازالت تنبع بالماء رغم جفاف جميع الينابيع الأخرى؟
رد عليه :" سأخبرك بسر كنا نسره أنا ورفيقي ساعتها واسمه دهشان، وكان حظرا علينا البوح به عندما كانت الينابيع والأنهار تملأ المكان، لكن, ومع تغير الحال، لم يعد هناك أي شيء نخشاه.
<><>
قال جابر :" أقلت أن اسم رفيقك هو دهشان؟ أيمكنك وصفه أو إعطائي أمارة تخصه؟"
فأجابه بأنه كان بني الأعين، فارع الطول، والعلامة الأبرز التي كانت تميزه هي أذنه المبتورة التي فقدها في أثناء مواجهتنا لخدم السعلوه."
رد عليه جابر بدهشة واستغراب :"ذاك الذي تتحدث عنه يكون أبي! لكن ما علاقتك به؟ ومن هي تلك السعلوة التي واجهتماها بمفردكما؟"
تفاجأ الشيخ لما علم أن جابر إبن رفيقه. ثم هدأ روع جابر وقال له : "ما سأقوله لك اليوم لم تسمعه قط في حياتك حتى من أبيك، وستجده أمرا غريبا لكنها الحقيقة، وستعلم حالا لماذا أخفينا الأمر عن الجميع.
قبل قرابة السبعين سنة كنا أنا ووالدك قد خرجنا في تجارة لبلاد الهند, نبغي منها جلب التوابل والأثواب التي لم تكن متوفرة في بلدتنا آنذاك, واستغرقت رحلتنا حوالي السنتين وأثناء ذلك أصاب بلاد آتول وقراها جفاف وقحط, لم تشهد له مثيلا. وكنت أنا وأبوك ساعتها عائدين في طريقنا نحو بلدتنا، وكنا قد اعتدنا العثور على ينابيع الماء طول طريقنا، وكنا نتزود منها ما يكفينا, إذ لم تكن تلك أول رحلة لنا الى بلاد الهند، فلما لم نجد ينابيع الماء التي اعتدنا وجودها وأصاب العطش منا مبلغه، وصلنا الى بئر كنا نمر عليه كل مرة نخرج فيها في تجارة، ولم نكن نلقي له بالا، لكن هذه المرة قررنا أن ينزل أحدنا الى قاعه وينظر إن كان به ماء. ألقيت بالحبل, ونزل والدك أسفل البئر, وأخبرني أن البئر ناضب, وأن هناك مغارة مظلمة يسمع داخلها صوت خرير المياه, وأنه سيدخلها، فحذرته من ذلك، لكنه أبا أن يستمع لنصيحتي فدخلها، وكانت الشمس قد قاربت على المغيب, وأبوك لم يعد يرد على مناداتي له، فعقدت الحبل برجل الجمل, وأضأت شمعة ونزلت لأطمئن على حاله ثم دخلت بعد ذلك المغارة، فسمعت صراخ والدك, وأسرعت في اتجاهه لأساعده, فلمحته من بعيد قد استل خنجره وصار يضرب به يمينا وشمالا فظننت أنه جن، فحاولت الإقتراب منه لأوقفه، وما إن اقتربت منه! حتى لمحت مخلوقات بشعة الشكل، تدخل الرعب في النفوس، ومن دون أن أحس، مددت يدي جهة الخنجر, لأستله وأدافع أنا الآخر عن نفسي لكنني من هول ما شاهدته, أخطأت يدي مكان الخنجر وراحت جهة كيس الملح الذي كان مربوطا بخاصرتي, فلما أدركت أنني ممسك بكيس الملح وكان أحد المسخ قد اقترب كثيرا، ألقيت عليه ذلك الملح لأبعده عني، وهنا كانت المفاجأة! فلقد اختفت كل تلك المخلوقات في لحظة واحدة, وصاروا دخانا. فأدركنا أن تلك المخلوقات من الجن، لأن الجن تكره الملح بطبعها. ولما اختفو، ظهر خلف خيالاتهم شجرة عملاقة, جذورها تشق الأرض وفروعها تخترق سقف المغارة, وكان بعض فروعها يابسا والقليل منها مخضرا ونضرا، وكانت جنبات تلك الشجرة العجيبة مليئة بالماء العذب، فارتوينا منه، وسمعنا خرير المياه، كان قادما من داخل الشجرة،  لم نفهم في البداية شيء, فقررنا المضي قدما داخل المغارة, بعد أن أخذنا حب الإستكشاف. 
<><>
كانت المغارة أشبه بعالم آخر تحت الأرض. مشينا حتى وصلنا بحيرة ماء، وكانت على مد البصر، ولمحنا من بعيد قاربا صغيرا يتوجه نحونا، وانتابنا الفضول لمعرفة من بداخله. فلما توقف القارب خرجت منه سعلوة مخيفة الشكل، وسألتنا إن كنا قد جئنا لفك السحر المعمول على الماء، فسكتنا لأننا لم نكن نعلم عن ماذا كانت تتحدث، فقالت لنا : "لا بد أنكما جئتما لذلك الأمر، ولتنقذا مملكة آتول من الجفاف الذي حل بها".  فعلمنا من كلامها أن بلدتنا قد أصابها الجفاف والقحط. فسألناها عن الحل. فضحكت وطلبت منا شرطا. طلبت منا أن نعثر على ذو المكارم من البلدة، وعرفته بأنه ذلك الشخص الذي قدم للناس خيرا, لم يسبقه إليه أحدهم، ثم نأتيها بشيء من التراب الذي لامس أقدام ذلك الشخص. فخرجنا من عند السعلوه, وعدنا للبلدة ووجدناها صارت فعلا جرداء بسبب قلة الماء. فبحثنا وبحثنا حتى وجدنا شيخا كان كلما قدم إليه محتاج أو ضيف, ضحى بأحد خيوله الأصيلة, حتى يطعمه حتى لو كان عابر سبيل غريب لا يعرفه، واستمر على كرمه, حتى استنفذ قطيع خيوله، وكانت خيوله مضرب المثل في الأصالة والقوة, لكنه رغم ذلك ضحى بها من أجل المحتاج والسائل. ففعلنا ما طالبتنا به السعلوه, وحملنا لها التراب. فتوجهت السعلوة نحو الشجرة العملاقة, ووضعت التربة التي أحضرناها أسفل جذع الشجرة, وقطفت من الشجرة ثمرة وانتزعت لبها, وغرسته في تلك التربة، وما إن سقتها بالماء! حتى خرج منها شجرة عملاقة، أزاحت الأولى وعوضتها, وأنبتت ثمرة على شكل إنسان, ورائحتها كرائحة اللحم, فقطفتها السعلوة والتهمتها. وأخبرتنا أنه لولا تلك الثمرة, التي تمدها الشجرة بها لتشبع جوعها, لكانت افترستنا وافترست كل سكان البلدة. وأخبرتنا كذلك أن تلك الشجرة هي التي تمد مملكة آتول بالماء, حيث تستخرجه من الأرض بجذورها, وتنشره في عيون الماء عبر فروعها. وأخبرتنا أخيرا أنها ستعود لقيلولتها وسترسل خدمها من الجن في صفة بشر, لترى ما إذا استغلوا نعمة الماء خير استعمال وأكرموا من غلاتها المحتاج والسائل. فإن ضلوا عن ذلك قامت والتهمت فروع الشجرة, فتحبس ماءها من الوصول لمنابع المياه.
 وحذرتنا من إخبار سكان البلدة, بتفاصيل ما جرا بينها وبيننا، وإلا سوف تعلم بذلك, وتمنع عنهم الماء، لأن غايتها أن يقوم الناس بمساعدة وإكرام المحتاج بملئ قناعتهم و دون وزيعة خوف تدفعهم لذلك. ثم عادت لقاربها وغطت في نوم عميق منذ ذلك الحين. 
<><>
وعدنا لبلدة آتول أنا وأبوك, ووجدنا عيون الماء قد انفجرت بالماء من جديد, وعادت الحياة كما كانت من قبل. وافترقنا أنا وأبوك, فهو ظل في بلدة آتول وأنا استقريت في قريتي هاته, وكل منا يحاول ما استطاع زرع قيم الكرم والعطاء بين الناس, دون أن نطلعهم بتفاصيل واقعة السعلوه. وهذه قصتنا مع السعلوة. وما كنت لأحكيها لكم لولا إيقاني أنه لم يعد هناك ما نخسره أكثر من ذلك، و أن السعلوة قد استيقظت وأدركت أن الناس لم تعد تكرم السائل والمحتاج, والتهمت فروع الشجرة العملاقة, وجفت بذلك عيون الماء.
والآن وقد علمتم سبب ما يحدث, وما عليكم فعله لتعود البلدة والقريات المجاورة لسابق عهدها، فيبقا عليكم أن تجدوا ذو المكارم، وسيسهل عليكم آنذاك ارجاع الأمور الى نصابها.
أدرك جابر صعوبة المهمة التي تنتظره, لكنه تذكر صاحب الكوخ والخير الذي قدمه لعشيرته، فودع شيخ القرية, وغادر هو و باقي البعثة عائدين نحو الكوخ, حيث قابل الشيخ الجليل, وأخذ شيء من التربة التي مشى عليها الشيخ وكيس ملح, وطلب جابر من الشيخ أن يرشده للبئر، فلما وصل دخله جابر وباقي مرافقيه من البعثة, وكانوا ثلاثة رجال. فلما دخلوا المغارة, لم يجدوا صعوبة في تجاوز عقبة خدم السعلوة من الجن، وصاروا حتى قابلوا السعلوه, فطلبت منهم التربة التي صار عليها ذو المكارم, فقدمها لها جابر وفعلت بها ما فعلته في السابق. وحذرتهم السعلوة من أن يفشوا سر البئر وما صار بينهم, وعادت واستلقت في قاربها وغطت في نوم عميق سيستمر لأعوام قادمة, إن لم ينقضوا عهدهم لها. وبدأت الحياة تدب من جديد في بلدة آتول والقرى المجاورة، وتزوج جابر من ابنة صاحب الكوخ, وأنجبت منه أطفالا, وصار يوصيهم وأمهم بوصية أبيه ويقول لهم : "أطعموا المسكين والمحتاج من ما نأكله, ولا تردوه خائبا كيفما كان الحال, حتى يداوم الله ما تفضل به علينا ويبعد عنا شرها."
وصار جابر والثلاثة الذين رافقوه وشهدوا الواقعة، يحثون الناس على إكرام المحتاج و الأخذ بيد المساكين, وهم وحدهم يعلمون ما ينتظرهم وبلدة آتول، إن هم خالفوا, وصية السعلوة النائمة.


تعديل المشاركة
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة